الحمد لله الذي أمدنا بكثير من النعم والعطايا , وردَّ عنا كثيراً من النقم والخزايا , أحمده حمداً يليق بجلاله , وأحتاج بعد أن أحمده إلى أن أحمده تارة بعد تارة , وأراني عاجزاً عن تمام الشكر والحمد والثناء فليس لي إلا أن أتبرأ من حولي وقوتي إلى حوله وقوته سبحانه فأقول : لا حول لي ولا قوة إلا بك يا الله , فارزقني شكراً وحمداً تامين , كما رزقتني نعمةً ومنَّةً تامتين - يا إلهي وقارئ كلماتي هذه - ثم الصلاة والسلام على خير الشاكرين الحامدين , الذي أوتي خلقاً عظيماً فدعا الناس , ومما دعا إليه خلق الحياء الذي به ينال العبد كل خير فهو خلق لا يأتي أبداً إلا بخير كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم , ومن دونه يفقد العبد كل خير , يقول ابن القيم رحمه الله " فمن لا حياء له ليس معه من الإنسانية إلا اللحم و الدم و صورتهما الظاهرة، كما أنه ليس معه من الخير شيء "
وكماله حينما يكون حياءً من الله تعالى فبه يكون كل حياء , ويتفاوت الناس فيه على مراتب شتى , ولكم شكونا في زماننا من غياب هذا الخلق العظيم , في الأسواق , والأعراس , وفي العلاقات الأسرية بين الآباء والأبناء , و بين الأخوة , والأقارب والأصدقاء , وفي محاضن التعليم بين الطلاب , بل ومع الأسف حتى بين بعض المربين للأجيال إن سمي مربياً تجاوزاً , حتى نشأ ناشئ الفتيان فينا على ذاك , وتباعاً لما سبق من الموضوعات التي هي نتاج جولة في صحيح مسلم في التوضيح والبيان , اخترت هذه الحديث لأتكلم عليه على نسق ما سبقه من طرح , فالله اسأل أن يرزقني وإياك تمام الحياء ومنه لكل خير فإليك أخي المبارك هذا الحديث مع شيء من مباحث الحياء .
عن عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «الْحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ» فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ: أَنَّ مِنْهُ وَقَارَا وَمِنْهُ سَكِينَةً. فَقَالَ عِمْرَانُ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَتُحَدِّثُنِي عَنْ صُحُفِكَ؟.
وفي رواية لمسلم : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : «الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ» قَالَ أَوْ قَالَ: «الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ»
أولاً: تخريج الحديث:
الحديث أخرجه مسلم، في " كتاب الإيمان " " باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها وفضيلة الحياء وكونه من الإيمان "حديث (37)، و أخرجه البخاري في "كتاب الأدب" "باب الحياء"، حديث (6117).
و أما رواية "الحياء خير كله" أو قال "الحياء كله خير" فانفرد بها مسلم عن البخاري في نفس الباب والكتاب السابقين ، و أخرجها أبو داود في "كتاب الأدب" "باب في الحياء" حديث (4796).
ثانياً: شرح ألفاظ الحديث:
( بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ ): بشير بضم الباء أحد كبار التابعين و فضلائهم.
( الْحِكْمَةِ ) : هي في الأصل إصابة الحق عن طريق النظر الثاقب و العلم.
( أَنَّ مِنْهُ وَقَارَا وَمِنْهُ سَكِينَةً ) : أي أن الحياء منه ما يحمل صاحبه على أن يوقر غيره، و يتوقر هو في نفسه، و منه ما يحمل على أن يسكن عن كثير من المنهيات و المكروهات و الأشياء التي لا تليق بذي المروءة.
ثالثاً: من فوائد الحديث:
الفائدة الأولى : الحديث دليل على على فضل الحياء و أنه محمود على كل حال و هذا الحياء الشرعي حيث قال النبي صلى الله عليه و سلم (( الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ )) و (( الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ )). وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( الحياء من الإيمان ))
فإن قيل: هناك من الحياء ما يمنع صاحبه من قول الحق أو الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فكيف نجمع بينه و بين كون الحياء لا يأتي إلا بخير و أنه خير كله؟
والجواب: أن هذا الحياء ليس هو الحياء الشرعي الذي هو خير كله، بل هو خجل و خور و عجز و مهانة و سمي حياءً مجازا و تشبيها لأنه يشترك مع الحياء الشرعي في معنى الانكسار و الانقباض وتعارف عند الناس أنه حياءً لكنه ليس حياءً شرعياً و إن سمي حياءً فهو حياء مذموم ليس مقصوداً في الحديث .
الفائدة الثانية: اختلف في سبب إنكار عمران بن حصين - رضي الله عنه - و غضبه على بشير بن كعب حينما قال له: " إِنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ: أَنَّ مِنْهُ وَقَارَا وَمِنْهُ سَكِينَةً " اختلف فيه على عدة أقوال:
* فقيل: لأن بُشيراً قال " أَنَّ مِنْهُ وَقَارَا وَمِنْهُ سَكِينَةً " و (من) للتبعيض فيفهم منه أن من الحياء ما ينافي الوقار و السكينة و لذلك أنكر عليه، و يؤيده رواية مسلم الأخرى "فقال بشير بن كعب: إنا لنجد في بعض الكتب أو الحكمة أن منه سكينة ووقاراً لله، و منه ضَعْفٌ فغضب عمران".
* وقيل: إنما غضب لأن بشيراً قال ذلك في معرض من يعارض كلام الرسول صلى الله عليه وسلم بكلام غيره، و يؤيده آخر الحديث حيث قال عمران " أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و سلم وَتُحَدِّثُنِي عَنْ صُحُفِكَ؟".
* و قيل: إنما غضب لأنه خاف أن يخلط السنة بغيرها فسد ذريعة ذلك بالإنكار عليه.
الفائدة الثالثة: من مباحث الحياء أيضاً ما يلي:
- تعريف الحياء .
الحياء هو تغير و انكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به، وفي الشرع: خُلُقٌ يبعث على اجتناب القبيح و يمنع من التقصير في حق ذي الحق ، هكذا عرفه ابن حجر في الفتح [ انظر الفتح "كتاب الإيمان" "باب أمور الإيمان" حديث (9)] ، و قيل في الحياء تعريفات أخرى غير هذا.
- للحياء نوعان :
حياء غريزي ، و حياء مكتسب .
النوع الأول : الحياء الغريزي : وهو الذي يكون خِلْقة و جبلَّة و هذا النوع ليس مقصودا في حديث الباب و لكنه يعين على المكتسب فهو سبب في الكف عن القبائح .
والنوع الثاني : الحياء المكتسب : وهو المقصود لأنه هو الذي يكون معه نية تبعث صاحبه على فعل الطاعة و تحجزه عن فعل المعصية، فاستعمال الحياء على وفق الشرع يحتاج إلى نية وهذا يكون في المكتسب، و قد جمع للنبي صلى الله عليه و سلم النوعان من الحياء فكان في الغريزي أشد حياء من العذراء في خدرها، و كان في المكتسب المثل الأعلى في البشرية صلى الله عليه و سلم.
- الحياء و الاستحياء من صفات الله تعالى
و هي صفة خبرية ثابتة بالكتاب و السنة و (الحيي) من أسماء الله جل و علا.
و دليل من الكتاب: قوله تعالى:{ إنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيي أَن يَضْربَ مَثَلاً مَّا بَعوضَةً فمَا فوْقَهَا} ([1])و قوله: {وَ الله لاَ يَسْتَحيي مِنَ الحَق}[2].
و من السنة: حديث أبي واقد- رضي الله عنه - في الصحيحين و فيه: (( و أما الآخر فاستحيا، فاستحيا الله منه، و أما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه )).
و حديث سلمان- رضي الله عنه - مرفوعاً (( إن ربكم حيي كريم، يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين )) رواه أبو داود و الترمذي.([3] )
و حياء الرب جل و علا ليس كحياء المخلوقين الذي هو تغير و انكسار بل هو حياء يليق بجلاله يكون فيه ترك ما ليس يتناسب مع سعة رحمته و كمال جوده و كرمه و عظيم عفوه فلا يفضح عبده إذا عصاه و جاهر بذلك بل يستره استحياء من هتك ستره، قال ابن القيم في نونيته:([4])
وهو الحيي فليس يفضح عبـده *** عند التجاهر منه بالعصيـان
لكـنه يلقي علـيه ستــره *** فهو الستير و صاحب الغفران([5]).
- أعظم صور الحياء الحياء من الله