إن الله تعالى قد أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، وثمة أمور عظيمة بعِث بها النبي إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا وإن من هذه الأخلاق الكريمة الفاضلة والصفات العالية الحميدة صفة الحياء، هذا الخلق النبيل والسلوك القويم الذي ما اتصف به مسلمٌ ما إلا وحاز به الخير الكثير، وابتعد به عن الشر المستطير، ونال به الثواب الكبير. واعلموا ـ عباد الله ـ أن هذه الصفة الكريمة عظيمة الشأن رفيعة القدر، بل ويكفي لعظمها وجلالها أن الله سبحانه وتعالى متصف بها، فالحياء صفة من صفات الرحمن، قال قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وأما حياء الرب تعالى من عبده فذاك نوع آخر، لا تدركه الأفهام، ولا تكتنفه العقول، فإنه حياء كرم وبرٍّ وجود وجلال، فإنه تبارك وتعالى حيي كريم، يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرًا، ويستحي أن يعذّب ذا شيبة شابت في الإسلام". نعم الحياء صفة من صفاته تعالى، وصفاته تعالى كلها صفات كمال، منزهة عن أي وضعف ونقصان. ولا يخفى علينا جميعا ـ أيها المسلمون ـ ما كان لنبينا ويتجلّى ـ عباد الله ـ عظم وأهمية صفة الحياء في ديننا بما أخبر به والحياء كما عرفه العلماء: هو خلق يبعث على ترك القبيح ويمنع من التقصير في حق من الحقوق، فالحياء خلق فاضل يدعوك إلى التحلي بالفضائل والبعد عن الرذائل، والحياء يدعوك أن تخجل في نفسك، وتستحي من ربك، ثم تستحي من الناس. وإن الاستحياء من الله هو أسمى وأعظم مرتبة للحياء، وقد أمر به النبي فحقيقة الاستحياء من الله أن تحفظ لسانك وسمعك وبصرك وبطنك وفرجك عما حرم الله سبحانه وتعالى عليك، وإن الاستحياء من الله يشمل كذلك أن لا تعصيه في خلوتك وقد قال بعض السلف: "خف الله على قدر قدرته عليك، واستح منه على قدر قربه منك". وصدق من قال: وإذا خلوتَ بِريبةٍ في ظُلْمَـةٍ والنَّفْسُ داعيةٌ إلى الطُغْيانِ فاستحي من نظرِ الإلهِ وقُلْ لها إنَّ الذي خلقَ الظلامَ يَرَاني وإن من الحياء ـ عباد الله ـ أن تستحي من الناس، فحياؤكَ من الناسِ يمنعك من أن تقع أعينهم على ما يعيبونه عليك، وحياؤك من الناس يقودُكَ إلى رفعِ الأذى عنهم، قال ابنُ القيمِ رحِمَهُ الله: "فالحياءُ هو من أعظمِ الأخلاقِ وأكْرَمِها، ذلك لأنه مصدرُ الفضائِلِ، فالولدُ يبرُ بوالديهِ بسبب الحياءِ، وصاحِبُ الدارِ يُكْرِمُ ضيفَهُ بسبب الحياءِ، والعبدُ يفي بالموعدِ بسبب الحياءِ أيضًا، لذلك عندما سُئِلَ المصطفى عليه الصلاة والسلام قالَ: ((إنَّ لِكُلِ دين خُلُقًا، وخُلُقُ الإسلامِ الحياء))" مروي بإسناد حسن عن أنس. والحياء ـ عباد الله ـ مأثور عن الأنبياء المتقدمين، وأن الناس توارثوه عنهم قرنا بعد قرن، ففي صحيح البخاري من حديث أبي مسعود رضي الله عنه أن النبي فالمرء حينما يفقد حياءه يتدرج في المعاصي من سيئ إلى أسوأ، من رذيلة إلى أرذل، ولا يزال يهوي حتى ينحدر إلى الدرك الأسفل. وكذلك المرء إذا لم يكن له حياء جهر بالمعاصي أمام الناس ولا يبالي، فالمجاهرون بالجرائم والمعاصي والمعلنون لها أمام الناس جهارا نهارا ولا يبالون بما يفعلون هؤلاء لا يستحيون من الله، ولا يستحيون من الناس، ولهذا استحقوا الوعيد الشديد الذي أخبر به النبي وقد أحسن من أنشد بقوله: إذا لم تخـش عـاقبة الليالي ولم تستح فاصنع ما تشاء فلا والله مـا في العيش خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء يعيش المرء ما استحيى بخيـر ويبقى العود ما بقي اللحاء وقال الآخر: إذا قلّ ماء الوجه قلّ حياؤه ولا خير في وجه إذا قل مـاؤه حياءك فاحفظه عليك فإنما يدلّ على وجه الكريم حيـاؤه إن الحياء ـ عباد الله ـ كله خير، رأى النبي فلا ينبغي أن يكون الحياء مانعًا من قول الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا حائلا عن طلب العلم، وقد قال
| |||
![]() الخطبة الثانية | |||
عباد الله، لقد خلق الله المرأة وكانت مثالا للحياء، فقد فطرها الله سبحانه وتعالى على هذه الصفة الجليلة، وجاء الإسلام فجعلها شعارا للعِرض والحرمة، وعنوانا للحشمة والعفة، ورمزا للحياء والسترة، فشرع لها من الشرائع والأحكام ما يحفظ به حياءها وعفتها، وما يصون به شرفها وقيمها. ومن هذه الأحكام ما أوجبه الله عليها من السترة واللباس، هذا الحجاب هذا اللباس الرباني الذي هو عنوان الحياء والعفة عند المرأة المسلمة، فقد أوجبه الله تعالى في كتابه فقال جل وعلا: أيها الإخوة الكرام، إن هناك تلازما بين ما شرعه الله من اللباس لستر العورات وبين التقوى، فكلاهما لباس، قال تعالى: فالتقوى يستر عورات القلب ويزينه، واللباس الشرعي يستر عورات الجسم ويزينه، وهما متلازمان، فمن الشعور بالتقوى والحياء ينبثق شعور يستقبح به المرءُ أن يتعرّى في جسده، ومن لا يستحي من الله ولا يتقيه لا يهمه أن يتعرّى أو أن يدعو غيره إلى العُري، ولهذا كان ستر العورة عند الرجل والمرأة ملازما للتقوى والحياء. والحجاب الذي يستر المرأة هو عنوان عفتها، فالحجاب يحفظها من أذى الفساق ومرضى القلوب، فلا تتسابق النظرات إليها، لأنها حفظت أوامر الله، فحفظها الله سبحانه تعالى. والحجاب ـ عباد الله ـ يتناسب مع غيرة الرجل التي جبله الله عليها، أبًا كان أو زوجا أو أخا أو ابنا، فالمؤمن لا يرضى أن توجَّه نظرات خائنة إلى أهله وعياله، وحفظُ كلِّ ذلك بالحجاب. كما أن الحجاب طهارة للمرأة المحجّبة وطهارة لقلب الرجل، قال تعالى: فالمرأة المحجبة تجدها من أكثر النساء حياء، في لباسها، في كلامها، في مشيتها، وقد ذكر الله على سبيل المدح في سورة القصص من موقف ابنتي الرجل الصالح اللتين تربتا على العفة والطهارة والحشمة والحجاب، قال تعالى: وإنّ ما نراه اليوم ـ عباد الله ـ مما أحدثه بعض المسلمات في هذا الزمان من التعري ولبس القصير والضيق والشفاف من اللباس بقصد أو بغير قصد مناف للحياء، وهو أمر فظيع، وهو بعيد كلَّ البعد عما أوجبه الله على المسلمات لما أبدينه من المفاتن والمحاسن، فكان سببا عظيما في إثارة الفتنة عند الشباب، وقد حذر الله سبحانه وتعالى من التبرج في كتابه فقال للمسلمات: هذه صفات نساء من أمته رآهن النبي فاتقوا الله ـ عباد الله ـ في بناتكم ونسائكم، وقد يرفض بعض النساء الحجاب بدعوى أنه لباس قديم، ونحن في عصر حضارة وتقدم، فجوابها أن أحكام الله في القرآن صالحة لكل مكان وزمان، ولكل حضارة وانحطاط، وكذلك بعض الآباء والأمهات قد يتساهلون في قضية الحجاب بحجة أن البنت ما زالت صغيرة السن، أو لم تنه الدراسة بعد، قال ومن النساء والفتيات من يمتنعن من ارتداء الحجاب خوفا من عدم الزواج، فبزعمهن أن الفتاة إذا ارتدت الحجاب فإنها ستكون مخبأة عن أنظار الرجال، ولن تعجب أحدا وهي مستورة، وسيفوتها الزواج، وأما إذا كانت متبرجة ومتزينة فستجلب الكثير من الرجال، وأكيد أنها ستقع على من يتزوجها، وهذه نظرة قاصرة ناتجة عن ضعف في الإيمان، فالمسلمة المؤمنة الصادقة يهمها ابتداء طاعة الله ومرضاته واجتناب غضبه وسخطه لا الزواج، والزواج هو نصيب مكتوب بيد الله، والحقيقة والواقع الذي نراه في شوارعنا يكذّب هذا، فإن المرأة المتبرجة لا تجلب أنظار الرجال فحسب، بل أنظار الذئاب كذلك الذين همهم الوحيد هو العبث والسخرية ببنات الناس، ولاحول ولا قوة إلا بالله. عباد الله، إنَّ الحياءَ خُلُقٌ عظيمْ يحْفَظُ لِلرَجُلِ هيْبَتَهُ ورُجولَتَهُ، ويَحْفظُ لِلمرأةِ عِزّتَها وأُنوثتَهَا، ويُلْبِسُ الشَّابَ الْجَمالَ والْكرَامةَ. رزقنا الله وإياكم الحياء، وجعله لنا رادعا عن كل محظور، ومانعا من كل منكر. اللهم أصلحنا وأصلح شبابنا وبناتنا ونساءنا أجمعين |