أمّا بعد: فيا أيها الناس، فقد توالتِ السّنون والعصور الإسلامية منذ الرعيل الأوّل إلى يومنا هذا والإسلام يلقّن أبناءه يومًا بعد يوم روحَ الثبات على الدين وآداب المغالبة والمدافعة والصبر على الشدائد وتكفُّؤ الفتن والرزايا بروح الراضي بقضاء ربِّه الواثقِ بإنجاز وعده، محتمِلاً مع ذلك كلّ نصب، مستسيغًا في سبيل الله كلَّ تعب، وليس هذا الشعور الإيجابيّ مختصًّا بالفرد المسلم دون المجتمعات المسلمة برمّتها، كلاَّ، بل إنّ عليها جميعًا ما يجب من استحضارِ مثلِ تِلكم المشاعِر على وجهٍ آكَد من مجرّد حضوره في صورة أشخاص أو صورة أفراد لا يصلون درجةَ المجموع؛ لأنَّ من سُنن الله في هذه الحياة الدنيا أنّ المجتمعاتِ المسلمةَ المؤمنة بربّها الراضية بدينها ونبيّها فلا غروَ عباد الله؛ إذ لا بدّ لكلّ مجتمع مسلم أن يبثَّ آهاتِه وهمومَه لإخوانه من المجتمعات المسلِمَة، فلا أقلَّ حينَها من أن يلاقي من يواسيه أو يُسليه أو يتوجَّع له، وليس وراء ذلكم مثقالُ حبّة من خردل من تعاون وتراحُم. إنّه متى شوهِد مثلُ ذلكم الواقعِ الإيجابيّ بين المجتمعات المسلمة فلن تقعَ حينها فريسةً لما يسوؤها، بل كلّما لاح في وجهها عارض البلاء وكشَّر أمامها عن أنياب التمزّق والتفرّق والأزمات التي تعجمُ أعوادَها وتمتحن عزائمها لم تمت في نفسها روحُ المصابَرة المستنيرةُ بهدي الوليّ القدير مهما ظلّت كوابس الظلم والتسلّط جاثمةً على صدرها. ومن هذا المنطلق يبقى الإسلام شامخًا أمامَها، ولا يموت المسلمون جرّاءَهَا، بل إنّهم لا يزالون يردّدون كتاب ربّهم ويتلون قولَه: عباد الله، لقد انطلق نور الإسلام ليكون مما يهدي إليه توثيقُ علاقة الفرد المؤمن بالفرد المؤمن، والمجتمع المؤمن بالمجتمع المؤمن، على أكرم أساس وأشرف نبراس، وقد أحاط ذلكم التوثيق بسياج الفضيلة والإيثار والرحمة والنصرة، فقد قال جل شأنه: كلّ هذه النصوص ـ عباد الله ـ دالّةٌ بوضوح على تحضيض الشارع الحكيم على التعاون والإلفة والتناصر واتّحاد الآمال والآلام بين المسلمين مجتمعاتٍ وأفرادًا؛ لأنّ الربَّ واحد، والدين واحد، والنبي إنّ هذه لحقيقة شامخةُ البناء، أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء؛ لذا كان لزامًا على المجتمعات المسلمة أن تتوهّج في نفوسها المعاني الكريمة للتماسُك والتراحم والتناصر، وأن يتوهّج السموّ الروحيّ في الأخوّة والتضامن والمساواة والتخلّص من سلبية احتكار الشعور وفرديّة العواطف والنشوز بين الأجناس المختلفة، فدين الإسلام لم يجعل للجنس ولا للُّغة ولا للَّون معيارًا لتلك المعاني الجليلة؛ لأنّ الكلَّ عبادُ الله، والنبي إذًا كيف لا تحُضّ شِرعة الله ومنهاجُه على مثل هذه المعاني وقد كرّم الله بني آدم وحملهم في البَرّ والبحر ورزقهم من الطيِّبات؟! وقد كرّم من بني آدم أمّةَ الإسلام، فأوجب عليها من التراحم والترابط والاجتماع والنصرة ما يحرّم من خلاله كلَّ معنى من معاني الفرقة والاختلاف والأثرة وحبّ الذات والخذلان والإسلام للغير. وإنّ من لديه أدنى إلمامٍ بعالَم بعض الأحياء ليدرك جيِّدًا أثرَ تلكم المعاني في واقعها لأجل البقاء والسيادة والوقوف في وجهِ الظالم المعتَدِي، فالنمل على سبيل المثال يتعاون في دأب وصبر على الأعمال المتعدّدة والمحاولات المتكرّرة، وقد ذكر الله جلّ وعلا عن أمّة النمل موقفَها من سليمان عليه السلام: فإذا كان ذلكم هو الشعور الجليّ في الحشرات والحيوانات العجماوات غريزيًّا فكيف بالإنسان المسلم الذي استطاع أن يملك ذلكم الشعور بالغريزة وبالشريعة جمعاء، حيث يقول الرسول إن في أمتنا الإسلاميّة مجتمعاتٍ مسلمةً تمرّ عليها أيّام عِجافٌ، قُلِب فيها الباطلُ حقًّا والحقُّ باطلاً؛ لأنّ دورةً من دورات الزمن منحتِ المبطلَ القوّةَ في الأرض، فجعلته هو صاحبَ الأرض، وجعلت مالكَ الأرض الأصل إرهابيًّا طرِيدًا لا حقَّ لَه، كلُّ ذلك يستَدعي شَحذَ همَمِ المجتمعاتِ المسلمة شعوبًا وحُكَّامًا وأصحابَ قَرار أن يحيطوا تِلكم المجتمعات بالرحمة والتّعاطف والإحساس بالواجِب تجاهها والسَّعي الدَّؤوب لإحقاقِ الحقّ وإبطال الباطل، فالحقُّ لا يمكِن أن يضيعَ جوهرُه لأنَّ عِللاً عارضةً اجتَاحت أهلَه؛ إذ لم تتحوّل جرائمُ فرعون إلى فضائل لأنّه ملك سلطةَ الأمر والنهي واستطاع قتلَ الأبناء واستحياء النساء. إنّنا إذا لم ندرك ذلكم جيّدًا فلن نستبين أغراضَ الغارة الشعواء الكامنة في جعلنا وإخوانَنا من المجتمعات المسلمة قِصّةً تُروَى وخبرًا كان، أو تبقيَنا جملةً لا محلَّ لها من الإعراب، إلاّ أن تلتقيَ الأطماع على أنقاضنا، وعزاؤنا أنّ الله غالبٌ على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون. بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر والحكمة، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنّه كان غفّارًا.
| |||
![]() | |||
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده. وبعد: فيا أيّها الناس، إنّ الحاجةَ إلى تلاحم المجتمعات المسلمة وتوحيد شعورها إيجابًا وسلبًا وفق ما شرعه الله لهم والدعوة إلى إذكاء ذلكم الشعور لم تكن بِدعًا من الحديث، وليست هي خيالاً لا يُتصوَّر وجوده، ولا فتونًا يتردّد، ولا هي مثاليّة يُهزأ بها، بل هي واقعٌ منشود في كلّ عصر ومصر، وهي وإن خبت تارةً فإنها قد نشطت تاراتٍ، وإنّ ذلكم كلَّه ليسير على من يسّره الله له متى ما تحقّقت معاني التعاون الصادق والإحساس المشترك والانتماء الأصيل للدين؛ إذ القوّة وحدها لا تكفي، والصبر وحدَه لا يسدّ الحاجةَ، والشجاعة وحدها لا تردّ الاعتداء، ما لم تُحَط هذه الأمور جميعها بالتعاون المشترك ووضع الأكفّ على الأكفّ بين المجتمعات قياداتٍ وشعوبًا؛ ليكون تلاحم الأمّة سياجًا منيعا ضدَّ أيّ ثارةٍ أو غارة، وضدّ أيّ تحدٍّ وعدوان غاشم يبيح كلأها ويختلي خلاها، فإذا كانت القوّة وحدها لا تكفي دون تعاون وتضافر فكيف إذا كان الضعف جاثمًا مكانَ القوّة؟! فقوّة القويّ لا يتمّ لها الكمال إلاّ بتعاون الضعيف معه، فما ظنّكم بالضعيف إذا عاونه القويّ؟! وأيّ قوّة أسمى وأعلى من قوّة الدين والملّة؟! ولقد ضرب الله لنا مثلاً ذا القرنين على ما أوتي من قوّة وشدّة، إذ مكّن الله له في الأرض وآتاه من كلّ شيء سببًا، نراه مع قوّته وشدّته لم يستغن عن التعاون والاشتراك في مواجهة الشدّة، وذلك حينما سألوه أن يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج سدًّا، فقال: ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وصلّوا وسلّموا على خير البرية وأَزكى البشريّة محمّد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبّحة بقدسه، وأيّه بكم أيها المؤمنون، فقال جل وعلا: اللّهمَّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد...
|